تغريدات عميقة في كتابة السيناريو (1)
تغريدات في كتابة السيناريو
(من الصفحة الشخصية للكاتب والمخرج رفقي عساف )

السيناريو فن منفصل تماماً عن الكتابة الأدبية.. إلى حد أننا نتكلم عن لغتين مختلفتين..
قبل كل شيء لغة السرد والوصف في النص الأدبي هي اللغة الأدبية التعبيرية الوجدانية التي تستخدم في الكتابة وهي وحدها كافية.. ولكن لغة السرد في السيناريو هي “البناء”.. أي بناء المشاهد وترتيبها..
لأنك في السيناريو تكتب لوسيط سمعي بصري.. ولذلك لا يمكنك أن تكتب في السيناريو إلا ما يمكن رؤيته أو سماعه.. سأعطيكم مثالاً واضحاً..
جلست فلانة تفكر فيما قاله لها فلان بالأمس.. وكيف ان علاقتهما وصلت الى طريق يجب ان تقرر معه ما عليها فعله..
فالمماطلة والتسويف في المسميات لم تعودا تجديان نفعا ولا بد من لحظة قرار….. إلخ إلخ” ممكن نستطرد عشر صفحات..
ما الذي يستطيع المخرج تصويره من هذا المشهد؟.. فلانة جالسة.. 🙂
هذه اللغة هي اللغة الأدبية الوجدانية.. وبالتالي لا تصلح للسيناريو بشكلها هذا لأنها تدخل في الوجدانيات..
طيب كيف يتم حل هذه المشكلة وإيصال نفس المعنى بالسيناريو؟
هنا تأتي لغة البناء.. التي يعتمدها السيناريو والتي تعتمد على وحدة مختلفة هي المشاهد.. وليس الكلمات وحدها..
وفي هذه اللغة قد تحتاج لإيصال المعنى أعلاه إلى مشهدين أو 3 مشاهد مثلاً (هذا مثال فقط)
مشهد لفلان يعبر لفلانة عن امتعاضه لعدم وجود مسمى للعلاقة..
ومشهد لفلانة جالسة تفكر
مشهد لفلانة تخبر فلان بقرارها..
وهكذا أصبح لمشهد جلوس وتفكير فلانة الأوسط نفس المعنى المسرود أدبياً أعلاه.. ولكن بلغة مختلفة.. هي لغة السيناريو..

من السهل جداً أن تبكي المشاهد.. الميلودراما ذات تأثير فوري على أي مشاهد عادي..
يكفي أن تخلق موقفاً إنسانياً مؤثراً.. وسيتعاطف المشاهد بطبيعته الإنسانية مع الموقف على الفور..
أستطيع أن أكتب لك فيلماً عن لاجيء دخل عن طريق التهريب.. وتقطعت به السبل.. فتحول إلى شحاذ.. ثم أصيب بألم في خاصرته.. ظنه في البداية بسبب برد الأرصفة.. ولم يجد أي عيادة تقبل بدخوله دون مال أو أوراق.. ولم يجد أي هيئة للاجئين تعترف به بدون أي إثبات أنه لاجيء..
هذه قصة اختلقتها لتوي.. أليست مؤثرة؟ مع بعض الموسيقى وإخراج بلقطات قريبة وعدسات طويلة لتوهان الرجل في الشوارع.. ألن يبكي المشاهدون؟ ولكن..
أين الدراما؟ نعم الصراع واضح.. صراع هذا الشخص أمام الفقر والألم..
ولكن أين الشخصية الدرامية؟ وأين الصراع الدرامي؟.. ستتساءلون ما معنى شخصية درامية وصراع درامي؟؟
بالشخصية الدرامية أعني ما الذي يميز هذه الشخصية بالذات لنصنع عنها فيلما؟ هي حالة ضمن عشرات الحالات.. فكيف أصبحت حالة تستحق أن تروى سينمائيا؟..
وبالصراع الدرامي أعني ما الصراع الداخلي والخارجي الواضح والمفهوم الذي يشكل قوام هذا الفيلم؟؟؟ في “الحريف” الذي أضربه كمثال دائم على أفلام “الشخصيات”.. فارس شخصية درامية متفردة.. لها خصوصيتها التي تستحق أن تروى كلاعب كرة شراب متميز في الشوارع.. ولها صراع درامي.. حيث صراعها الخارجي مع واقع لا يقبل الموهوبين ولا ينصفهم.. وصراعها الداخلي مع تقبل فكرة ان الكرة رياضة بدنية لها وقتها ولا يمكن ان يستمر الموهوب فيها إلى الأبد..
ومع تقبل فكرة أنه سيتحول عاجلا ام اجلا الى انسان عادي مسحوق في قاع المدينة وعليه تقبل هذه الفكرة أو مواجهتها بشكل آخر غير لعب الكرة..
حين نريد أن نعرف عظمة فيلم فنيا.. فلنبحث عن الدراما.. حين تغيب الدراما لا يبقى سوى استدرار العواطف المجانية.. وهو أمر شديد السهولة.. والفرق واضح… كالفرق بين قصة الشحاذ أعلاه.. والحريف فيلم محمد خان..

ملحوظة مهمة.. هناك فرق كبير جداً جداً بين “المباشرة” وبين “البساطة”
.. وحين أنتقد “المباشرة” والزعيق في الأعمال الفنية فأنا لا أطالب بالتقعر والغموض وصنع أعمال صعبة الفهم.. المباشرة هي أن تكون مهموماً بالموضوع والقضية وتقدمهما للمشاهد بالملعقة أو بنفس وعظي أو توعوي أو دعائي..
أما البساطة فهي أن تكون مهموماً بالقصة والشخصيات.. وتقدم من خلال هذه القصة والشخصيات الموضوع الذي تريد قوله بشكل غير مباشر.. وذكي.. وبسيط.. ومشغول بحرفية وفنية عالية..
من الممكن أن تصنع عملاً بسيطاً جداً.. ومفهوماً.. ولكنه يشي ولا يقول.. وليس هناك ما يتعارض أبداً مع أن يكون العمل ممتعاً وسهلاً على المشاهد العادي.. بل أن هذا مطلوب.. لذلك اقتضى التوضيح..

السيناريو أحد الصنوف الأدبية..
فمن لا يعرف أسس الأدب والدراما ولو من باب العلم بالشيء.. فمن الصعب أن يجد طريقه في السيناريو.. كل العناصر الموجودة في السيناريو تقريباً.. من شخصيات وحبكة وصراع إلخ.. هي نفسها تلك الموجودة في الأدب بفنونه المختلفة من مسرحية وقصة ورواية.. والإلمام بها يختصر الطريق على من يريد دخول عالم الكتابة السينمائية.. هناك فروق طبعاً كتلك الموجودة بين المسرح وفنون السرد الأخرى التي وجدت لتُقرأ فقط من قصة ورواية

لا أدري كيف يمكنني شرح هذه النقطة ولكنني سأحاول.. برأيي فإن أسوأ ما قد يفعله كاتب السيناريو.. هو الغرق في ما يريد للمشاهد أن يعتقده..
مثال: جريمة قتل.. والمشاهد لا يعرف من القاتل.. أسوأ ما قد يفعله الكاتب هو صب كامل جهوده على إبعاد الشك عن القاتل الحقيقي.. والتركيز في الدراما على التشكيك بمشتبه آخر.. هذه الحيلة قديمة جداً وأصبحت مستهلكة إلى حد مضحك.. فكرة أن تواصل التركيز على شخص ما بأنه المنشود..
ستدفعني تلقائياً للشك في شخص آخر.. فكرة اخفاء الشخص المنشود نفسها بحثاً عن التشويق أصبحت تقنية تشويق بالية ومستهلكة..
إن تورط الكاتب في محاولة فرض اتجاه تفكير معين على المشاهد.. يوقعه في فخ “التضليل”.. وهو أسوأ فخ من أفخاخ كتابة السيناريو..
بناء التشويق يمكن أن يتم بمليون طريقة غير هذه الطريقة.. إن تبنّي الشخصيات واللحاق بردود أفعالها المنطقية وخلق التشويق مما تورط هي نفسها فيه دون تدخل مقحم من الكاتب.. أجدى وأكثر فعالية بكثير.. وأوفى لماهية الدراما..

نصيحة سينمائية.. كثير من المنتجين.. بل وحتى مستشاري النصوص.. خصوصاً الكبار والمميزين.. لا يملكون الوقت لقراءة نص كامل.. لأن عليهم ضغط كبير من الراغبين في عرض نصوصهم.. لذلك عليك ككاتب أن تشد اهتمامهم..
هناك تقنية يتم تعليمها في مدارس السينما.. اسمها “Elevator Pitch” أو “تقديم المصعد” بحيث يجب عليك أن تكون قادراً على تقديم فكرة فيلمك أو مشروعك لو وجدت نفسك بالصدفة مع منتج مهم في المصعد.. أي لوقت قد يقل عن دقيقة واحدة أحياناً..
نفس هذا التكثيف قد ينطبق على سطر واحد مكتوب يجب أن تكون قادراً من خلاله على تقديم فكرتك وشد انتباه المتلقي..
يعني مثلاً.. في حالة المنعطف كنت لأقول: “لدي فيلم عن شخص يخشى التواصل مع الناس فيعيش في باص فوكس فاجن قديم”.. قدرتك على تكثيف فكرتك هي جزء أصيل من قدرتك على بيعها او تسويقها وإيجاد إنتاج لها.. النقطة الأخرى التي قد تفيدك.. هي أن كثيراً من المنتجين يقولون بأنهم يقرأون الصفحة الأولى من السيناريو..
فإن لم تنجح في شدهم فهم يتركونه لضيق الوقت.. لذلك عليك أن تبدأ فيلمك أو مشروعك بصفحة أولى قوية تستطيع أن تشد المتلقي.. هذا طبعاً غير إلزامي.. لأن كثيراً من الأفلام العظيمة بدأت بصفحة أولى عادية.. ولكنها إحدى الطرق التي تزيد فرصك في هذا الإطار..

هذه التغريدات تم تجميعها من منشورات عامة (من الصفحة الشخصية للكاتب والمخرج رفقي عساف )
الأستاذ رفقي عساف كاتب ومخرج للعديد من الأفلام ومدرب ومستشار في الهيئة الملكية لصناعة الأفلام في الأردن
نهاية مقال تغريدات في كتابة السيناريو.
مقالات ذات صلة:
تغريدات عميقة في كتابة السيناريو (2)
تغريدات عميقة في كتابة السيناريو (3)
Tag:تغريدات, عميقة, كتابة السيناريو