تغريدات عميقة في الإخراج السينمائي
تغريدات في الإخراج السينمائي
تغريدات عميقة في الإخراج السينمائي :
(من الصفحة الشخصية للكاتب والمخرج رفقي عساف )

أغلب المخرجين الشباب المبتدئين الذين أتحدث إليهم.. وقد كنت أحدهم.. لا يولون الجانب “النظري” أو “الشعوري” أو “الدرامي” أو “الفلسفي” الاهتمام الكافي..
هم مهتمون أكثر بالجوانب “الجمالية” و”التقنية”.. والسينما والتلفزيون ليسا “جماليات” و”تقنيات” فقط.. السؤال الأكبر لأي مخرج.. هو سؤال “لماذا؟”.. “لماذا أضع الكاميرا هنا وليس هنا؟” “لماذا أقول للمونتير اقطع هنا وليس هنا”.. المهمة الأساسية للمخرج أغلب المخرجين يضعونها في هامش أولوياتهم أصلاً.. وهي إدارة الممثل..
“لماذا أريد من الممثل أن يعطيني هذا الإحساس هنا وليس الإحساس الآخر”.. “لماذا؟” وليس “كيف؟”.. لا بأس من أن يتعلم المخرج “الكيفية” ولكن فريقه التقني من مدير تصوير ومونتير وممثلين يمكنهم أن يساعدوه في “الكيفية” ولكن لا أحد سيساعده في سؤال لماذا.. هذا عليه أن يحدده بنفسه.. حتى وإن ساعدوه بالمشورة وهو أمر مستحب.. فسيظل دائما قرار حسم إجابة هذا السؤال في كل مرة منوطاً بالمخرج وحده.. ليس يكفي أن تكون اللقطة “جميلة” أو “معقدة تقنياً”.. يجب أن يكون لها “معنى” أو على الأقل “إحساس” بهذا المعنى..

من الأشياء التي تسبب الصدام الدائم في علاقة المخرج بالمنتج.. هو اختلاف الأولويات بالنسبة للطرفين
.. فبالنسبة للمنتج.. الأولوية هي إنجاز المشروع بغض النظر عن مستواه.. لأن أي يوم تصوير إضافي أو أكثر.. قد تعني كارثة حقيقية يمكن أن تصل للتسبب بإيقاف المشروع كله.. فيوم التصوير الواحد يكلف آلاف الدولارات وأحياناً عشرات الآلاف إن لم يكن أكثر في بعض الحالات.. المنتج يريد صنع فيلم أو عمل جيد حتماً..
ولكن أولويته الأولى خصوصاً أمام مموليه هي أن ينجز فيلماً من الأساس.. وهذا الهاجس يطارده دائماً لذلك يسعى وفريقه للعب دور ساعة التوقيت التي تطارد المخرج.. بالمقابل فأولوية المخرج خصوصاً المستقل.. هو صنع الفيلم الجيد الذي يريده ويحلم به.. هو بالتأكيد يريده أن ينجز الفيلم ويشارك المنتج في هذا الهدف.. ولكن أولويته الأولى هي مستواه الفني.. المنتج يريد إنهاء المشروع.. إنجازه.. والمخرج يريد صنع فيلم جيد.. أنا شخصياً لن ادخل يوماً مشروعاً دون توضيح هذه الحقيقة.. هل نريد أن ننهي تصوير المشروع؟ أم نريد أن نصنع عملاً جيداً؟ هذا السؤال يجب أن يوضع على الطاولة دائماً..
المخرجون في الغرب.. تتلخص سلطتهم الفنية في السينما.. والمسلسلات القصيرة أو المحدودة.. فقط..
أما عالم المسلسلات التلفزيونية الطويلة.. فهو عالم قائم على استمرارية العمل لأطول فترة ممكنة.. فالنموذج الغربي في الانتاج التلفزيوني اكتشف مبكراً أن ليس هناك جدوى انتاجية من فتح مشروع مسلسل طوله 30 حلقة ثم اغلاقه وفتح مشروع جديد بتكاليف جديدة ومغامرة انتاجية جديدة قد تنجح وقد تفشل.. الأسلم والأجدى إنتاجياً هو إنجاح نفس المسلسل وأن يحب المشاهد المسلسل وشخصياته وأماكن تصويره ويتعلق به ويشاهده لعدة مواسم/سنوات..
ومن أجل نجاح هذا النموذج وبقاء المسلسل لأطول فترة ممكنة.. فدور المخرج لا يعود هو الفيصل.. وبالتالي لا يصح أن يكون هو رأس العمل التلفزيوني كما في السينما.. بل انتقلت السلطة إلى الكاتب.. لأنه الوحيد القادر على الحفاظ على التماسك الدرامي ورسم الشخصيات وتغيراتها ومسار الحدوتة المشوق لاطول فترة ممكنة وهو ما يستطيع شد المشاهد لعدة مواسم.. فالابهار البصري لأي عمل لا يصمد لأكثر من عدة حلقات.. بعد ذلك يتبقى سير القصة والشخصيات والأداء التمثيلي.. لذلك فمهمة المخرجين في هذه الأعمال هو الحفاظ على وحدة الأداء التمثيل وبقاء الممثل داخل الشخصية.. وترجمة اللغة البصرية الموحدة والمتفق عليها للمسلسل.. أما السلطة الفنية الحقيقية.. فهي لفريق الكتابة.. وللShow Runner الذي هو كما اتفقنا كاتب بالضرورة..
كثير ممن يحللون الأفلام.. يركزون دائماً على عنصر واحد..
حجم الممثل في اللقطة.. أحياناً كثيرة يؤثر خيار الزاوية العلوية أو السفلية في ذلك.. وأحياناً قربه أو بعده عن الكاميرا أو وقوف الممثل/جلوسه أو نقطة التركيز (الFocus).. ويقيسون على هذه النقطة ليتحدثوا عن مقدار “سيطرته” Dominance في المشهد.. يساق أحياناً مشهد “العراب” الشهير بين آل باتشينو (مايكل) وجون كازال (ألفريدو) للحديث عن وقوف مايكل وتمدد ألفريدو وكيف أن مايكل يسيطر على المشهد.. وكلما كان الحديث عن فكرة قوة شخصية داخل المشهد..
يتم القفز فوراً إلى فكرة الزاوية السفلية.. مقابل زاوية علوية تشي بالضآلة للشخصية الأقل قوة أو سيطرة..
أنا شخصياً أرى بأن هذه الطريقة القاصرة في صنع الدلالة أو تحليل اللقطات بصرياً هي طريق “الحافظ مش فاهم”.. فالآليات نفسها والتكوينات نفسها يمكن أن يصاغ منها دلالتان متناقضتان بحسب استخدام المخرج لها.. فليس كل حجم كبير في الشاشة أو لقطة سفلية هي سيطرة وتمكن.. وليست كل لقطة علوية أو حجم صغير في اللقطة هي ضآلة وانهزام.. إن الأهم في التكوين البصري دائماً هو الSignificance أو نقطة الأهمية في المشهد.. وسأدرج هنا لقطتين من المنعطف لتبيان الفرق من وجهة نظري..
في اللقطة الأولى: “الشرطي يلقي تساؤلاته على ليلى وسامي.. الشرطي أكبر حجماً في اللقطة.. وهو مسيطر تماماً كما يفترض.. ولكن.. اختيار مدير التصوير بيوتر جاكسا لنقطة التركيز Focus بالتأكيد على ليلى وسامي.. لأنهما محور الأهمية في المشهد وإجاباتهما هي المهمة..
اللقطة الثانية: هي اللقطة التالية من نفس المشهد عند انتقال الشرطي لسؤال راضي.. راضي يحتل اللقطة.. ويظهر خلفه سامي.. هل راضي مسيطر؟ لا.. الشرطي لا يزال مسيطراً.. راضي مهزوز ويشعر بانتهاك مساحته.. ولكن نقطة الفوكس تجعل راضي ومشاعره هي محور أهمية اللقطة..
(اخترت المنعطف لقدرتي على الحديث عنه بشكل يقيني وليس كتحليل تخميني)


هناك مخرجون أو كُتاب.. يظهرون في مرحلة معينة.. فيقدمون ما هو جديد ومميز..
فتلمع أسماؤهم ويسجلون حضورهم ووجودهم كعلامة من علامات الحقبة الفنية.. هؤلاء.. لو استمروا في العمل بنفس الطريقة.. وبنفس الأدوات والطرق.. سرعان ما سيتجاوزهم الزمن.. وسيصبح النظر إلى أعمالهم الجديدة (التي تصنع بالأدوات القديمة) يشبه النظر إلى قطعة ملابس قديمة بالية.. لا جمال فيها ولا روح.. لأن تكرار ما كان جميلاً ومميزاً في الماضي.. ومواصلة اجتراره.. هو الفشل بعينه.. وهو ما خلق مصطلح كليشيه.. فالكليشيه أو القالب الجاهز مبتذل..
حتى لو كان من يكرره ويواصل اجتراره هو صانعه الذي قدمه في البداية ونجح فيه لدرجة جعلته يستحق محاولة التقليد والتكرار من الآخرين.. الزمن لا يقف عند نقطة.. ومواصلة التطور والتعلم هي ضرورة من ضرورات هذا الفن وصناعه.. لا أقصد أحدا بعينه ولكنها فكرة خطرت لي عند تتبع مسيرة فنان.. غيّر في الفن في لحظة ما ثم صار يكرر نفسه حتى كاد يتلاشى تماماً..
هذه التغريدات تم تجميعها من منشورات عامة (من الصفحة الشخصية للكاتب والمخرج رفقي عساف )
الأستاذ رفقي عساف كاتب ومخرج للعديد من الأفلام ومدرب ومستشار في الهيئة الملكية لصناعة الأفلام في الأردن
نهاية مقال تغريدات في الإخراج السينمائي.
مقالات ذات صلة:
تغريدات عميقة في كتابة السيناريو (1)
Tag:الإخراج السينمائي, تغريدات, عميقة